ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه
الأمة الواحدة: أمة التوحيد، وهذه القافلة الواحدة: قافلة الإيمان، فإذا هي ممتدة
في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة، إنها الأمة
الممتدة منذ إبراهيم، أبيهم الأول، وصاحب الحنيفية الأولى، وفيه أسوة لا في
العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة
ووشائجها، ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة (4-5)] وينظر المسلم فإذا له نسب عريق،
وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته
فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك، فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من
رصيده الشخصي، وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه، إن هذه القافلة الممتدة في شعاب
الزمان من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرت بمثل ما يمر به،
وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته، فليس الأمر جديداً، ولا مبتدعاً، ولا
تكليفاً يشق على المؤمنين، ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة،
ويرجع إليها، إذا أنبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته، فهو فرع من شجرة ضخمة
باسقة عميقة الجذور، كثيرة الفروع، وارفة الظلال، الشجرة التي غرسها أول المسلمين
إبراهيم. [في ظلال القرآن (6/3542)].
